الخميس، 15 مارس 2012

هُنَيْدَة !!




بعدما احتجبت الشّمس عن محياها ، وطال بها الإنتظار لمعالم كانت تتمناها ....هاهو شهاب في الأفق يضيء السماء ، يبعث بهالة من نور ، بالدفء ، بالسرور ...وقليل من الأمان !
غدت " هُنَيْدَة " تراقص النجوم ، تحلم بنهر الجمال ، فيض أحاسيس تنهمر في آخر حفلتها الكبرى ! 
تزفر أنفاس الطيب بالأرجاء والأهواء ، تتأمل ، تتساءل ..هل هذا لي ؟؟ أهو نصيبي ؟؟ كم أنا محظوظة اليوم 
وهل أستوعب هذا الشعاع الضارب في المكان ، في الحضور ...أجل إنه هو ...هو ذلك الذي دعوت الله أن يفتح لي الباب الموصود وأن يقرع في المسافات دف القبول !!.
وراحت تسترسل في ابتسامات خجولة تودع بعض ماكان من ذكريات مريرة و كثير من ثياب قديمة و أخذت تحرق 
بعض الدفاتر التي حملت أوجاع تجارب سلبية ، تعيد فرز الأوراق ، تنفث غبار السنين ، تكنس من ذاكرتها بقايا 
حسرات ...استعادت وهجها وأشرقت آمالها ..فسافرت في لجج الأحلام ، معلنة عن رسم كان يداعب مخيلتها 
بين حين وآخر وقالت : أخيراً تحقق لي حلم حتى ولو بعد مرور ثلاثه عقود يكفيني انبلاج فجري الجديد 
وهمسه الذي يبعث بالروح ألف روح وروح ...متشوقة للغد بألوان قزح ، ارتداء ثوب الفرح ، شذى الزهر يهزّ
الصمت ، يمزق السكون ، يسقط في الغياب رذاذ أمطار ! بلّلْ ..بلّلْ مسَ الأرض والأطيار وكل الشجر 
وحتى على جبين الوطن !
بدت لوهلة أن الدنيا من حولها حافلةً ،الكل يشاطرها بهجتها أوج لمعانها رمال الشواطيء ،موج البحر ودواره ، نجوم السماء !
وفي اليوم الموالي انطلقت في رحلتها مع صديقتها وجهة الضفة الأخرى من المدينة لإختيار الفستان الأبيض 
من محلات الماركات المحلية والعالمية وفي زحمة الصنوف وتعدد الإختيارات ضاعت بين الرفوف تنادي في كل مرة عزيزتها أنا سأختار هذه ...لا هذه أجمل ...برأيك أأختار النوع الأوروبي أو الشرقي ...هيا فلتساعديني 
لقد احترت واقترب الموعد ولم يبقَ الكثير ...وبعد أخذ ورد ، ذهاب وإياب بين المحلات استقرت على رأي وكان اختيارها نوعا من التي تمتلئ بالحجارة الماسية وقالت : هذا ما أريد إنه نوع قادم من سوريا أجل لقد أعجبتني كثيرا 
وأخدت ترتديه للتجربة وصديقتها تكاد تطير فرحة ، كم جميل عليك ، إنه مقاسك ويناسبك تماما 
كانت عروسا محلقة وتقدمت بخطاها المثقلة نحو مكتب المحاسبة ...دفعت الثمن واقتنت ما تريد وفي طريق العودة 
قالت : لكم أشتهي أن تراني أمي وتكتحل عيناها بيوم زفافي وأنا أرتدي الفستان الذي حلمت به كثيرا 
فكانت في كل مرة تستيقظ من منامها مبتسمة قائلة يا ابنتي علّ منامي خيرا لك ...كم مرة وأنا أراك بهذا اللون الأبيض لقد توفي والدك وكان مناه أن يرى وحيدته تزف من بيتي لبيت زوجها ..
آه يا صديقتي لكم يعز عليّ هذا الفراق أحس بيتم شديد وأريد منه عناقا طويلا ..لما انتبهت صديقتها 
أن تذكر والدها بدأ تتغير معه ملامح وجهها واغرورقت عيناها بالدمع ضمتها بشدة وبكت معها وقالت : 
هيا نعاود الدار فالكل في انتظارنا على نار ليرو اختيارنا وخاصة أمك فهي كل البركة حبيبتي .
فقاطعتها قائلة : 
- أنا أريد أن أعرفك عن أعز مخلوق من سيقاسمني المستقبل بألوان تزيل بقايا تاريخ مظلم .
قالت صديقتها : ولمَ لا .
سارتا في دربهما حتى التقيا به وقدمته لها وعرفتهما على البعض وهي بكامل نضارتها ..هذا هو والكلمات 
تخرج من بين شفتيها موسيقى ترج الهواء وفراشات عقلها تكاد ترى وهي تحلق وهي تنطق إسمه ورؤاها مشدودة نحوه ، مشدوهة بجاذبية العشق المخملي ...هذا فارسي الذي انتظرت وهذا موطني بعد اليوم ، لقد سلمته روحي 
لقد جاءني من وراء السحاب هدية ومن عواصم الجسور المعلقة ... البعيدة !
بينما هي مولعة بوصفه والكلمات تتطاير مع الريح ، عانقت البهجة صديقتها ،،، وأخذت تحدق ،تحملق في الرجل 
من إخمص رجله لأعلى شعر رأسه صعوداً ونزولاً متسائلة من هذا الذي يريد قطف أعز وردة لقلبها تلك الزهرة 
التي طالما قاسمتها الحب ، العطاء ، التنزه ، الحديث ، وحتى الأسرار ، محاولة التركيز أكثر ربما قد تجد في قراءاتها له بعض مزايا الشرق الأصيل ! 
وبعدها وبكل لطف ودعتا الفارس الخيال والوشوشات فيما بينهما تتعالى ليتنبه لها كل المارة في الطريق 
تارة ضحكة والأخرى وصف وانتقاد وأياديهما تتشابك وكأنهما توأمان لا يفصلهما الا موت وموت !
سألت "هنيدة " صديقتها 
- هل أعجبك ؟ ماذا ترين ؟! هل هو وسيم ؟! هل وهل ووو...؟؟!
* ردت عنها : هل نبض قلبك ؟! واهتز شعورك ؟! وحبست أنفاسك ..؟! 
- أجل طبعا إحساسي غريب لا أقدر وصفه ربما هو البحر ، الموج ، البدر ..لا ...لا أقدر أن أصفه أكثر 
* هل تحبينه ؟؟ 
- هو الإشراق والأفراح ، عواصم ربيع بلا انتهاء ، كيف أقول...المهم هو والوطن عندي واحد !
* أجابت صديقتها : إذاً ألف مبارك عليكِ و استبشري خيراً أظن أن أيامك المتبقية كلها وردية يا عزيزتي .
وانصرفت كل منهما حيث تكمل باقي اليوم في ظل أسرتها الكريمة ..
ولدى دخول " هنيدة " بيت أهلها سارعت بالركض نحو والدتها وأخرجت الفستان وارتدته أمامها والأم لما 
اكتحلت عيناها بهنيدة وهي عروس الزمان المنتظر والأبيض يزيدها جمالا خارقاً ولمعاناً متواصلاً ، ضمخت روحها 
بحناء الإنتظار وقالت لها :
* هذه حناء لقد اشتريتها لتضعيها باكراً قبل الدخول لبيت زوجك وفي حين هي تبارك لها الحياة بالرضا والإستقرار 
والسلام !! 
- تنهدت "هنيدة" وضمت بشدة والدتها وقبلتها والدموع تنهمر : أمي أنا سعيدة وأحس أنني لا أملك نفسي وأن روحي تطلع من بين ضلوعي الليلة ، لست أدري لماذا ؟! أهذه فرحة ؟! أم موت قادم ؟! وهل خروج البنت من بيت أهلها موت ؟؟!!
وحين خيم الليل وأسدل ستائره وكلها آمال ليوم موعود يصدح في الوجود بلحن الوعود مدت يدها لا تطلب من الله 
سوى صفاء ، طهر ، واكتمال ما ارتضت أن يشاطرها الأغنيات يخلع عنها سنين عجاف ، 
وفي منتصف الليل كانت صديقتها تحس بشيء غريب يحدث لها ، تختنق أنفاسها ، توجس ، تسمع أصوات بعيدة 
تنادي عليها ...وفجأة شعرت بتعب وحمى تنتشر بكامل جسدها ودوار حتى التقيؤ ، خارت قواها وأحست بهوان 
لجأت للفراش علّها تستريح مما ألم بها ...حينها كان جبينها يتصبب عرقاً والحمى تأكل جسدها الضعيف !
غفت عينها وماهي إلا سويعة فإذا بها ترى أنها بفضاء مابين السماء والأرض وجماعة ملثمة كلها سواد تطاردها 
وتريد النيل منها قالت : أعوذ بالله ماهذا ؟؟ ومن هؤلاء ؟؟ ولماذا ؟؟ وتوالت عليها أسئلة ليست لها بداية من نهاية !!
ورائحتهم النتنة تضرب في الأفق وهم يركضون وراءها ويطلقون الرصاص بكل الإتجاهات ، شبقيون للدم ، 
تسمع أصواتهم تعلو أكثر لابد أن نصلها لابد أن ننهيها اليوم !! تعجبت وهي تعدو كغزالة يطاردها صياد ماهر 
والخوف قد تملكها والفزع قد نال نصيبا منها وهي تركض هنا وهناك فارة من هول ما يلاحقها ، دمها تيبس داخل الشرايين ، أنفاسها تكاد تنقطع ...!! وفي هذه اللحظة بالذات أحست أن ستارة نهايتها اقتربت كثيرا وهي على مشارف الإحتضار ، أصابها العجز والوهن وهنا أصابتها رصاصة بالقلب ، ارتجفت ، هوت وهي تسمع صوت 
يعلو في الهواء الله أكبر ...الله أكبر .!
ومن هول هذا الحلم استيقظت وهي تتحسس بيدها جسدها وتمس رأسها وعيناها متحجرة بالدموع ونبضها مرتفع 
ولهاث كبير ويكأنها كانت تركض فعلا ، وماهي الا برهة فتحت فيها حلمها على ظلام المكان ووحشته لكن العجيب 
أن الصوت لايزال في أذنها يرن بكلمة الله أكبر وطلق الرصاص ، تنهدت ، تعجبت قالت : يا إلهى هذا حلم أم رعب ؟؟ حقيقة أم كابوس ؟؟ 
المسكينة جن جنونها وارهاصات كثيرة تغلغلت لذاتها البريئة حد الإغماء !
وتلعثمت بين ثنايا لحاف هودجها حتى فجر جديد ..
طرقٌ بالباب شديد ولا يتوقف عن نقر الباب بضربات قوية استيقظت مسرعة واتجهت نحوه وقبل أن تصل 
بخطاها المثقلة وكأنها تهرول للخلف لا للأمام سمعت صوت يناديها : هذه أنا افتحي ، افتحي ، مصيبة 
لا حول ولاقوة الا بالله وصوت البكاء يضرب من وراء الباب ولما وصلت وفتحت وجدت الطارقة جارتها تقول : 
البقاء لله ، صرخت من الذي مات ؟؟ اخبريني مَن ...مَن ؟؟ 
وحين هي تردد الكلمات أجهشت قائلةً : "هنيدة " ذبحت وارتحلت عنا !!

هناك 8 تعليقات:

  1. مساء الخير خديجة
    أبداع رائع
    تقبلي مروري

    ردحذف
  2. مساء الخير
    ممكن تدخلي عندي شوفي ليسة ثقيلة ؟؟؟
    وشكرا الزميلة العزيزة خديجة
    تحياتي

    ردحذف
    الردود
    1. آه انا قلت رأيي لابد أن تخفف من الصور والروابط من الصفحة الرئيسية

      حذف
  3. الأستاذة الأديبة الراقية :
    " خديجة بن عـادل "
    لست أعلم كيف أبدا الكلمـــات ،
    فالشكر لن يفيكـِ أبــداً ..
    لقد أمتعتيني حقـا ، وأنــا أقرأ أسرار ما في السطور ،
    من ماضٍ أليــم ، حيث تعايشتُ مع السردية بكل حرف ،
    واستودعت من بعد حروفكِ كل الحروف ، أحداث مسلسلة بحبكة ماهرة ، جاش عليها الماضي فجعلها تهذي بظلم بنو الإنســـان ،لن أقـول غير الله
    الله على جمال القلم حيث يسطر أحداثيات الزمـان ،
    بمشاعر واحاسيس وفيض ووجدان ،
    زادكِ الله من عندهـ ،
    فازيدينا كلما أزادكِ الله
    تحيتي يسبقها أعاصيــر احتراماتي .


    أحمـــ سعيــد ـــد

    ردحذف
    الردود
    1. صباح النور صديقي أحمد سعيد
      الحقيقة تعقيبك يسعد الخاطر مما يؤكد أنك تقرأ وتستوعب ما يجول في ثنايا السطور
      هنيدة قصة موجعة جدا وحزينة جدا راحت ضحية ارهاب أعمى لا يفرق بين سياسة وشعب
      لتكون كبش فداء لأحقاد ومطامع أناس شبقيين للدم : رحمها الله وأسكنها فسيح جنانه
      تحيتي الأثيرية معطرة بالعود والغار ..احترامي .

      حذف
  4. هنيدة عليها رحمات من ربي زكيات وان كن لحد اللحظة ترى هنيدات كثر تحت سكين العمى و بصيرة باهتة لا راحة كف تهديها من ظلمات الغي و الغطرسة.. .. رحمها الله تعالى و أسكن روحها جنان الخلد ..
    أسلوبك مازج بين السكينة و الاعصار حين السفتان الابيض انقشع فتحور لونه الى احمر خضب في ليلة بهيمية عمياء..كلم أدمع القلب دماء و أينع في حقل الذكرى اوجاع السنين الماضيات ..لله درك دوجا مهما كتبتِ فلن نفي حرفك حقه المرجو ...وفقك الله و زادك رفعة

    ردحذف
    الردود
    1. حبيبتي سرسر الأوجاع لا تزال في أرشيف الذاكرة مكدسة
      ومثلما ذكرتي هن كثر من يعانين وكم هي الرؤوس التي قتلت بأبشع الطرق حسبنا الله ونعم الوكيل
      عوض فستانها الأبيض ألبسوها كفنها ...لعنة الله عليهم ...أجل لقد عاودني الحنين لما كان مع هنيدة سنوات التسعينيات وكان مصرعها بسنة 1995 رحمها الله .
      من القلب يسعد خاطري لما أجد لك تعقيب مماثل ، فحضورك مرغوب وبعادك عن المكان مرفوض غاليتي
      تحيتي الأثيرية من ترار لقلب الهضاب العليا سطيف العالي .

      حذف

يسعدني جدا رأيكم بكتاباتي الأدبية ..امل في نقدكم البنّاء مع فائق احترامي